عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء

بقلم مثلث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس زكا الاول عيواص

أيها الأحباء ببهجة روحية تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك بعيد انتقال العذراء مريم بالجسد إلى السماء.

أحبائي، أمنا العذراء مريم والدة الله، هذه التي ولدت الإله بالجسد، فاستحقت أن نكمّل ما تحدثت به عن نفسها يوم زارت نسيبتها اليصابات، ويوم أعلنت اليصابات بوحي من السماء قائلة: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟»(لو 1: 43) فكانت اليصابات في مقدمة من أعلن أن العذراء مريم هي أم الله كما أقرَّت الكنيسة بناءً على العقيدة السامية أن العذراء هي والدة الله لأنها ولدت الإله بالجسد فعندما تمت إرادة الله إذ جاء ملء الزمان لينزل الكلمة من السماء ويتجسد.

وسمعنا الملاك يبشرها وهي دائمة البتولية بأنها ستحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل هذا الابن هو نسل المرأة الذي أعلن عنه الله الآب في بدء الخليقة عندما سقط الإنسان في الخطية - وفسدت طبيعته - وأعطى الله للإنسان الرجاء بالخلاص قائلاً: أن نسل المرأة يسحق رأس الحية(تك 3: 15)، هذه الحية التي هي إبليس بالذات وهذا النسل ليس هو أنسال كما يقول الرسول بولس بل نسل المرأة الذي حُبِلَ به بغير زرع بشر، وفي القرن الثامن قبل الميلاد وضح لنا إشعياء النبي هذه الأعجوبة العظيمة بقوله: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(اش 7: 14) وجاء الرسول متى وهو يكتب الإنجيل المقدس مستشهداً بهذه الآية ومفسراً هذه الكلمة، كلمة «عمانوئيل» السريانية قائلاً: «الذي تفسيره الله معنا"(مت 1: 23)

فهو الله الذي تجسد، هو الكلمة الذي اخذ الجسد البشري الكامل من الروح القدس والعذراء مريم، فنالت العذراء النعمة العظيمة من الله، إن الله عندما أراد أن يختار له أماً، اختار فتاة يتيمة، لطيمة، مسكينة، فقيرة جداً، ومن نسل الملوك والأنبياء ولكنها في الوقت نفسه بتواضعها، بِدِعَتها استطاعت أن ترضي الله ليختارها أماً له بتجسده فحل فيها الروح القدس عندما رضيت بما بشرها الملاك الذي قال لها: إن المولود منها قدوس وابن العلي يدعى وانه يأخذ كرسي داؤد أبيه (لو 1: 32).

ذكرها بالنبوات إن المسيح يأتي من نسل داؤد ويكون ملكه إلى الأبد، العذراء عندما قالت ها أنا امة للرب ليكن لي كقولك حينئذ حل عليها الروح القدس أولاً وطهرها وأهَّلها لتكون أماً لله فحل في أحشائها اللاهوت، لم يحرقها وهو نار بل أنارها وجبل من دمائها جسداً كاملاً ناسوتاً كاملاً ذا نفس حية كاملة أيضاً واتحد اللاهوت بالناسوت في أحشاء العذراء ولذلك حق لنا أن نعلن أن العذراء والدة الله لأنها ولدت الإله المتجسد، كما تلد النسوة الناس وهم ليسوا جسداً فقط بل روح كذلك ولدت العذراء مريم المسيح يسوع وهو جسد ولاهوت في آن واحد وفي اتحاد اللاهوت بالناسوت باقنوم واحد وطبيعة واحدة حق لنا أن ندعو العذراء مريم «والدة الله»، كما دعاها الآباء القديسون في المجمع الثالث المسكوني في أفسس

أجل، استحقت العذراء هذه النعمة العظيمة، ونحن عندما نذكرها لابد أن نذكر الفتاة القديسة التي سمت عن البشر بتواضعها، عندما زارت اليصابات نسيبتها، واليصابات بوحي من الله قالت: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ، هوذا عندما وقع صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يكون لها ذلك من قبل الرب فقالت مريم: «تعظم نفسي الربَّ، وتبتهج روحي بالله مخلصي، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأنَّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه (لو 1: 43- 50).

هوذا آباء الكنيسة بل أيضا المؤمنون كافة منذ فجر المسيحية طوَّبوا العذراء مريم بناءً على نبوتها شُيدت الكاتدرائيات العظيمة على اسمها في العالم أجمع، تشفع فيها القديسون والأنبياء بل أيضا المؤمنون الأتقياء لأنها صارت والدة الإله وعيدت لها الكنيسة منذ فجرها كما أعلن لنا الآباء القديسون الشمامسة الذين كانوا يعملون بصنع الفخار (القوقويه) منذ القرن السادس وأعلنوا لنا أنّ يوحنا الرسول منذ بدء المسيحية أتى بكتب إلى أفسس ووضح فيها أنه على المؤمنين أن يعيِّدوا للعذراء في كانون الثاني عيد الزروع لتبارك العذراء زروعنا، وفي أيار عيد السنابل لتبارك العذراء السنابل وتحرسها من الآفات، وفي الخامس عشر من آب ـ في مثل هذا اليوم. يعيدون لها عيد الكرمة، لأنّ السيد المسيح هو الكرمة ونحن الأغصان، ومن الكرمة يؤخذ الخمر الذي يقدَّس بهذا نرى سر المسيح بالذات، سر جسده ودمه فالسنابل والكرمة عنصرا الخبز والخمر معاً.

والكنيسة المقدسة أيضاً جعلت عيد الكرمة عيد انتقال العذراء إلى السماء الذي نعيِّد له في هذا اليوم ذلك لأنها آمنت بحسب التقليد المبارك الصادق أن العذراء قد انتقلت إلى السماء ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضا كما يُثبت التاريخ وبحسب تقليدنا نحن السريان، أن الرسل يوم انتقلت العذراء مريم من هذه الحياة اجتمعوا تلاميذ الرب إلى أورشليم وشيَّعوا جثمانها ووضعوها في قبر جديد وان الرسول توما الذي كان في الهند عندما جاء ووصل أورشليم بعد سبعة أيام وهو في طريقه من الهند رأى موكب العذراء يصعد إلى السماء هذا تقليد ثابت ذكره الآباء القديسون وأثبتوه بعلامات فحياّها وطلب منها إشارة وبرهاناً ليخبر إخوته الرسل بأنه قد رأى موكبها صاعداً إلى السماء ورآها بجسدها الممجد لتستحق أن تدخل السماء بالجسد الذي لا يمكن أن يبلى وقد ولد منها المسيح يسوع بالجسد ونحن لا نستغرب من ذلك ابداً وهذه عقيدة الكتاب المقدس.

 

+ ألم يتحدث الكتاب عن أخنوخ أنه "سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه"(تك 5: 24)، لأنه كان يخاف الله.
ألم يذكر الكتاب المقدس عن إيليا النبي الذي بمركبة نارية صعد إلى السماء (2 مل 2: 11)، وقد تغير طبعاً جسده إلى جسد روحاني واستحق أن يدخل السماء بهذا الجسد الروحاني، وأن يظهر يوم التجلي مع الرب يسوع.
وموسى النبي أيضاً جاء بروحه بجسد أثيري ورآه الرسل الثلاثة يعقوب ويوحنا وبطرس هامة الرسل بمجد عظيم مع الرب يسوع يوم تجلى بمجد عظيم جداً.

إذن، هل نستغرب أن يحفظ الله الآب والابن والروح القدس جسد البتول العذراء مريم التي ولدت الإله المتجسد، أن يحفظ جسدها بدون فناء ويغير هذا الجسد إلى جسد روحاني.

ويرى موكب صعودها إلى السماء الرسول توما، ويخبر ذلك إخوته الرسل ويفتحون قبرها فلم يجدوا الجسد، لذلك يرتل أبناء الكنيسة ما نظمه القديس مار يعقوب السروجي في القرن السادس «إن كان جسدك بعيداً عنا لأنه لم يبقَ لنا كذخيرة لبقية رفات القديسين، فإن صلاتك معنا دائماً» .فنحن نطوِّب العذراء كما قالت «جميع الأجيال تطوبني»، ونمدحها ونتشفع بها، ولكننا لا نعبدها، لأن العذراء إنسان وليست إله، لذلك من عبدها كفر، نطوبها ونتشفع بها لكي تتشفع بنا لدى ابنها الرب يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا لكي يرحمنا.

ونعيد لها فقط عيد ميلادها وعيد ميلاد مار يوحنا المعمدان من سائر القديسين والأبرار لا نعيد لهم إلا عيد نهاية أيامهم على هذه الأرض وانتقالهم إلى الخدور العلوية، ولكن العذراء نعيد عيد ولادتها الذي يصادف الثامن من أيلول.

فنعطيها الطوبى إذ استحقت وهي بالجسد التام وهي أيضا بشر مثلنا وولدت تحت الخطية، فهي ليست امرأة خالية من الخطية ولكن عندما بشرها الملاك واستحقت أن تكون والدة الإله حينئذ طهرها الروح القدس ونقّاها، وحلَّ فيها اللاهوت، وجبل من دمها جسداً كاملاً، لاهوتاً وناسوتاً.

هذه هي العذراء التي نُعيّد لها اليوم عيد انتقالها إلى السماء، ونطلب شفاعتها لينشر الله أمنه وسلامه في العالم أجمع، ويبارك أبناء الكنيسة لكي يكونوا متمسكين دائماً بالإيمان القويم الرأي، ويمجدوا اسم الآب والابن والروح القدس، الآن وكل آن آمين.

الاب انطونيوس لحدو